Loading...
الرجاء الانتظار قليلاً...
blog-img-1

تاريخ النشر: 02/11/2021, 16:01

عِيدُ رَفْعِ الصَّلِيبِ الْكَرِيمِ الْمُحْيِي

تحتفل به الكنيسة في: 14 أيلول

قَبْلَ مَجِيءِ المَلِكِ العَظيمِ القدِّيسِ قِسْطَنْطِينَ الكَبيرِ، كانَتِ الكنيسةُ تُعاني ٱضْطِهادًا عَظِيمًا، حيثُ إِنَّ كلَّ مَنْ كانَ يَعترفُ بأنَّهُ مَسيحِيٌّ كانَ يُسْتَشْهَدُ. لٰكِنْ عندَما ٱنشقَّتِ الإمبراطوريَّةُ، كانَ الملكُ قسطنطينُ ملكًا عَلى الجُزْءِ الغَرْبِيِّ للإِمبراطوريَّةِ، فَحاولَ خُصومُهُ أَنْ يُحارِبُوهُ، لٰكنَّهُ ٱنتصَرَ عليهِمْ بِصَلواتِ أُمِّهِ المُؤْمِنَةِ القدِّيسةِ هيلانَة، وَبَعْدَ أَنْ ظَهَرَتْ لَهُ إِشارَةُ الصَّليبِ في السَّماءِ، وَصَوْتٌ يقولُ لَهُ: "بِهٰذِهِ العَلامَةِ تَنْتَصِرُ". لذٰلكَ عامَ 313م، وفي مُعاهَدَةِ ميلانو، أَمَرَ الملكُ قِسطنطينُ المُنتَصِرُ أَنْ يُوقِفَ الِاضْطِهادَ، وأَعلنَ أنَّ الدِّينَ المَسيحيَّ هوَ دِينٌ مَسْموحٌ بِهِ في الدَّوْلَةِ. عِنْدَها أَخَذَ المَسيحِيُّونَ يَبْنُونَ الكَنائِسَ، بَعْدَ أَنْ كانَتْ في الكُهوفِ، وبَدَأُوا يَرفَعونَ الصُّلْبانَ فَوْقَها. وَفي ٱحتفالاتِهِمِ الدِّينِيَّةِ والمَدَنِيَّةِ، كانُوا أَيْضًا يُكَرِّمُونَ الصَّليبَ.
في هٰذِهِ الفَتْرَةِ، بَدَأَتْ إِشارَةُ الصَّليبِ تَكونُ عَلامَةَ المَسيحِيِّينَ العَلَنِيَّةَ، عِنْدَها قَرَّرَتِ المَلِكَةُ هيلانَةُ أَنْ تَبْحَثَ عَنِ الصَّليبِ المُكَرَّمِ. عِنْدَما وَصَلَتِ المَلِكَةُ إلى القُدْسِ، طلبَتْ منَ البَطريرْكِ الأُورَشَليمِيِّ مَكاريوسَ أَنْ يُصَلِّيَ لَها كَيْ يُرْشِدَها الرَّبُّ إلى صَليبِهِ، وَبِواسِطَةِ رَجُلٍ يَهودِيٍّ يُدْعى يَهُوذا، وَجَدَتِ الصَّلِيبَ في مَكانٍ خَرِبٍ مَلِيءٍ بِالقُماماتِ والتُّرابِ. ذٰلِكَ لأَنَّ اليَهودَ، بعدَ قيامَةِ الرَّبِّ، رَدَمُوا القبرَ المُقَدَّسَ، والوَثَنِيُّونَ بَنَوْا مَعْبَدَ الزُّهَرَةِ (فِينُوس) إِلٰهِ العِشْقِ على الجُلْجُلَةِ. هُنا نَجِدُ المَلِكَةَ القِدِّيسَةَ، مَلِكَةَ الرُّومِ، تَرْمِي بالذَّهَبِ، والشَّعْبَ يُنَظِّفُ القُمامَةَ، حَتَّى وَجَدَتْ ثَلاثَةَ صُلْبانٍ: واحِدًا منها عليهِ رَيْحانٌ، عِنْدَها طَلَبَتْ منَ البَطريركِ مَكاريوسَ أَنْ يُصَلِّيَ لَها كَيْ يُظْهِرَ الرَّبُّ الإلٰهُ صَليبَ المَسيحِ، فَأَتَوْا بِمَريضَةٍ، وَوَضَعُوا الصَّليبَيْنِ الأوَّلَ والثَّانِيَ عليها، فَلَمْ تُشْفَ. ولٰكِنْ عِنْدَما وَضَعوا الصَّليبَ الثَّالِثَ علَيْها شُفِيَتْ فِي الحالِ، وَلِلتَّأَكُّدِ، أَتَوْا بِمَيْتٍ، ووَضَعوهُ على الصَّلِيبَيْنِ الأَوَّلِ والثَّانِي، فلمْ يَقُمْ، ولٰكِنْ عِنْدَما وَضَعُوهُ عَلى الصَّليبِ الثَّالِثِ قامَ. فَتَأَكَّدُوا مِنْ أَنَّ هٰذا الصَّليبَ الَّذي شَفى المَرِيضَةَ وَأَقامَ المَيْتَ هُوَ نَفْسُهُ صَليبُ المَسِيحِ.
نَتَعَلَّمُ مِنْ هٰذا أَنَّ الرَّبَّ نَفْسَهُ أَعْلَنَ عنْ صَليبِهِ، وَبِعَجائِبَ وآياتٍ كَثيرَةٍ، أَثْبَتَ أنَّ هٰذا هُوَ صَليبُ المَسِيحِ. ومَعَ الِاحتِرامِ الشَّديدِ لِلْعِلْمِ، فالعِلْمُ لا يَستطيعُ أَنْ يُؤَكِّدَ صَليبَ المسيحِ مِنْ صَلِيبَيِ اللِّصَّيْنِ، لٰكِنَّ اللهَ وحدَهُ هُوَ القادِرُ بآياتٍ وعَجائِبَ. فَنَحْنُ لا نَعْتَمِدُ على العِلْمِ في الحقيقَةِ الرُّوحيَّة؛ فالعِلْمُ يَخْدُمُ الحقائِقَ المادِّيَّةَ فَقَطْ، وَلَيْسَ مِنْ حَقِّهِ أَنْ يَتَدَخَّلَ في الحقيقَةِ الرُّوحيَّةِ. مِنْ هُنا نَرى أنَّ الكَنيسَةَ الأُرْثوذُكْسِيَّةَ هيَ الكَنيسَةُ الوَحيدَةُ الَّتي بِها الحَقيقَةُ بِكامِلِها، وَتُعْلِنُ هٰذِهِ الحقيقَةَ، ليسَ بِإِشْعاعاتٍ إِلِكْترُونِيَّةٍ أو ذَرِّيَّةٍ، ولٰكِنْ بالنُّورِ الإِلٰهِيِّ وَالعَجائِبِ المُستمرَّةِ، الَّتي حَدَثَتْ وَتَحْدُثُ بِواسِطَةِ خَشَبَةِ الصَّليبِ المُقَدَّسِ. وبَعْدَ أَنْ وُجِدَ الصَّليبُ، أَقامَتِ الكَنيسَةُ صَلواتِ الشُّكْرِ للهِ، وَبَدَأَتِ الِاحتفالاتُ، وَأَخْبَرَتِ المَلكةُ هيلانَةُ ٱبنَها قِسطنطينَ عَبْرَ إِشْعالِها نارًا على رَأْسِ كُلِّ جَبَلٍ، وبهٰذِهِ السُّرْعَةِ عَرَفَ ٱبْنُها الملكُ الرُّومِيُّ المَسيحِيُّ بِخَبَرِ الصَّليبِ، وَبَدَأَتِ الِاحتِفالاتُ في القِسْطَنْطِينِيَّةِ. أَيضًا عِنْدَما رأى اليَهودِيُّ يَهُوذا عَجائِبَ المسيحِ، مِنْ خِلالِ صَليبِهِ، آمَنَ بالمَسيحِ، وَبَشَّرَ بِهِ، وَٱعتَمَدَ على ٱسمِ الثَّالوثِ الأَقْدَسِ، وأَصبحَ ٱسمُهُ كِرْياكوسَ، وخَلَفَ البَطْريركَ مَكاريوس، وبَعْدَ ذٰلكَ ٱستُشْهِدَ منْ أَجْلِ المَسيح. قَسَمَ الصَّليبَ طُولِيًّا إلى قِسمينِ: قِسمٍ أُرْسِلَ إلى القِسطنطينيَّةِ، وقِسْمٍ بَقِيَ في القُدْسِ، في كنيسَةِ القِيامَةِ الَّتي بَنَتْها المَلِكَةُ هيلانَةُ. ووَجَدَ أَربعَةَ مساميرَ على صَليبِ المَسيح، مَعَ أنَّ البَعْضَ يَدَّعِي وُجودَ ثَلاثَةِ مَساميرَ، وهٰذا خَطَأٌ؛ لأنَّهُ لَوْ ثُبِّتَتْ رِجْلا المَسيحِ بِمِسْمارٍ واحِدٍ، لَكانَ قَدِ ٱنكَسَرَ كَعْبُ رِجْلِهِ، ولٰكِنْ، كما هُوَ مَكْتوبٌ، "لَمْ يُكْسَرْ عَظْمٌ مِنْ عِظامِهِ". فَصَهَرَ المَلِكُ قِسطنطينُ ثَلاثَةَ مَساميرَ، ووَضَعَها في خُوذَتِهِ، والمِسمارَ الرَّابِعَ وَضَعَهُ بِشَكْلٍ عَمُودِيٍّ، حَتَّى يَكونَ شِعارَهُ في الحَرْبِ. عامَ 614م ٱنْتَصَرَ الفُرْسُ الوَثَنِيُّونَ على الرُّومِ المَسيحِيِّينَ، وٱحتَلُّوا مَدينَةَ القُدْسِ بِمُساعدَةِ اليَهود، قُتِلَ عِنْدها حَوالَيْ سِتِّينَ أَلْفَ مَسيحِيٍّ، وبَدَأَتِ الدِّماءُ الطَّاهِرَةُ تَجْري في شَوارِعِ القُدْسِ. كُلُّ هٰذا حَدَثَ بِمَعونَةِ اليَهودِ أَعداءِ صَليبِ المَسيح، وأَسَرُوا البَطْريركَ الأُورَشَلِيمِيَّ، وأَخَذُوا خَشَبَةَ الصَّليبِ المُكَرَّمِ، ووَضَعُوها بينَ الأَصنامِ والأَواني المُقَدَّسَةِ أَيْضًا. عامَ 629م أَتى المَلِكُ الرُّومِيُّ هِرَقْلُ وٱنتَصَرَ على الفُرْسِ، وطَرَدَ اليَهودَ منْ فَلِسْطينَ وَشَتَّتَهُمْ، وأَعادَ البَطْريركَ والأَوانِيَ المُقَدَّسَةَ والصَّليبَ المُكَرَّمَ. وعِنْدَما وَصَلَ إلى جَبَلِ الزَّيْتونِ، لَبِسَ لِباسًا مُتَواضِعًا، وَحَمَلَ الصَّليبَ، وأَعادَهُ إلى كَنيسَةِ القِيامَةِ. وكانَ هٰذا في 14 أَيْلُولَ- شَرْقِيّ، أَوْ 27 أَيْلولَ- غَرْبِيّ. لذٰلِكَ يُعَدُّ يَوْمُ عِيدِ الصَّليبِ يَوْمَ صِيامٍ ٱنقِطاعِيٍّ عنِ الزَّفَرَيْنِ بذكرى ٱستِشْهادِ المَسيحِيِّينَ، وعِنْدَما يَرْكَعُ الكاهِنُ حامِلًا الصَّليبَ، فهٰذا يَرْمُزُ إلى ٱختِفاءِ الصَّليبِ وظُهورِهِ مَرَّةً أُخْرى. ونَحْنُ نُقَبِّلُ الصَّليبَ، ونَسْجُدُ لهُ، ليسَ لِلعبادَةِ، وإنَّما للتَّكْريمِ؛ لأَنَّهُ بالصَّليبِ قَدْ خَلَّصَنا منَ المَوْتِ والفَناءِ، وأصبحَ الصَّليبُ إِشارَةَ ٱفتخارٍ بَعْدَ أَنْ كانَ شِعارَ لَعْنَةٍ، كَما هُوَ مَكْتوبٌ: "مَلْعونٌ كُلُّ مَنْ عُلِّقَ عَلى خَشَبَةٍ". والمَسيحُ رَفَعَ هٰذِهِ اللَّعْنَةَ عَنِ البَشَرِيَّةِ بِصَلْبِهِ المُكَرَّمِ. وكَما يقولُ بولسُ الرَّسولُ: "نَحْنُ نَكْرِزُ بالمَسيحِ مَصْلوبًا، عِزَّةً لِليهودِ، وجَهالَةً لِليونانِيِّينَ" (1 كور: 23-24). ويقولُ أيضًا: "حاشا لي أَنْ أَفْتَخِرَ إلَّا بِصليبِ رَبِّنا يَسوعَ المَسيحِ" (غلا 6:14). و"المَسيحُ ماتَ عنِ الجَميعِ" (2 كور 5:15). إِذًا عندَما نَسْجُدُ للصَّليبِ، لا نَسْجُدُ للخَشَبِ أوِ الأَلْوانِ، وإنَّما لِشَكْلِ الصَّليبِ الَّذي صُلِبَ عليهِ المَسيحُ. ونَرى رُموزَ الصَّليبِ واضحَةً في العَهْدِ القَديمِ. فَقَدْ تَقَرَّبَ هابيلُ إلى اللهِ ونالَ رِضاهُ بتقديمِ ذَبيحَةٍ دَمَوِيَّةٍ هيَ رمزٌ للصَّليبِ. وهَرَبَ الإِنسانُ من دَيْنونَةِ اللهِ منْ خِلالِ فُلْكِ نوحَ الَّذي هُوَ رَمْزٌ للصَّليبِ. وفي تَقْديمِ إبراهيمَ لِابنهِ الوَحيدِ نَلْمُسُ مَحَبَّةَ الآبِ السَّماوِيِّ لابنِهِ الَّذي بَذَلَهُ منْ أجلِ حَياةِ العالَمِ. وفي سُلَّمِ يعقوبَ نَرى الوَسيطَ بينَ السَّماءِ والأرضِ. وفي بَرَكَةِ يعقوبَ لِابْنَيْ يوسفَ عرَفْنا أنَّ كلَّ برَكَةٍ لا تَنْبَثِقُ إلَّا منَ الصَّليبِ المقدَّسِ، مَصدرِ النِّعَمِ والبَرَكاتِ. وفي خَروفِ الفِصْحِ رَأَيْنا المسيحَ فِصْحَنا الجَديدَ يَدْفَعُ حياتَهُ لِيُحْيِينا. وفي عُبورِ البَحْرِ الأَحمرِ تَعَلَّمْنا كيفَ نَعْبُرُ منَ العُبودِيَّةِ إلى الحُرِّيَّةِ، ومنَ المَوْتِ إلى الحَياةِ، بِواسِطَةِ خَشَبَةِ الصَّليبِ. وفي الشَّجَرَةِ الَّتي حَوَّلَتْ ماءَ مارَّةَ إلى ماءٍ عذْبٍ وحُلْوٍ تَذَوَّقْنا عَمَلَ الصَّليبِ الَّذي يُحَوِّلُ مرارَةَ نُفوسِنا إلى مَذاقَةٍ روحِيَّةٍ. وعندَما بَسَطَ موسى يَدَيْهِ على التَّلَّةِ رَأَيْنا فيهِ صورةَ المَصلوبِ. وفي الحيَّةِ النُّحاسيَّةِ رَأَيْنا الصَّليبَ خَشَبَةَ الحياةِ. وفي شَريعَةِ تَطْهيرِ الأَبْرَصِ رَأَيْنا المَوْتَ والقِيامَةَ. وَمَعَ يونانَ في جَوْفِ الحوتِ عِشْنا مَوْتَ المَسيحِ ودَفْنَهُ ثَلاثَةَ أيَّامٍ وقيامَتَهُ... ولَوْ نظَرْنا لَوَجَدْنا أنَّ الإِنسانَ مَخلوقٌ على شَكْلِ صَليبٍ.

 

✥ عظة أولى عن "الصليب الكريم" للقديس يوحنّا الذهبيّ الفمّ:

إذا عرفت بأيّة طريقة انتصر المسيح سوفَ يصير إعجابك أعظم. فَبِنَفس الأسلحة التي غلبَ الشيطان بها الإنسان انتصر المسيح عليه. واسمع كيف: عذراء وخشبة وموت هي رموز هزيمتنا. العذراء كانت حواء، لأنَّها لم تكن قد عرفت رجلها. الخشبة كانت الشجرة (التي أوصى الله آدم بألّا يأكل منها). والموت كانَ عقاب آدم. لكن العذراء والخشبة والموت التي كانت رموزاً لهزيمتنا صارت رموزاً للانتصار. لأنَّ لدينا مريم العذراء بدلاً من حواء، ولدينا خشبة الصليب بدلاً من شجرة معرفة الخير والشرّ، ولدينا موت المسيح بدلاً من موت آدم. هل رأيتَ؟ فالشيطان هُزِمَ بنفس الأسلحة التي انتصرَ بها قديماً!!! لقد حاربَ الشيطان آدم وانتصرَ عليه بالقرب من الشجرة، والمسيح انتصر على الشيطان فوق خشبة الصليب. الشجرة الأولى قادت البشر إلى الجحيم، أمّا الثانية فقد حملتهم من الهاوية إلى الحياة. أيضاً الشجرة الأولى أخفت الأسير إذ كانَ عارياً، أمّا الثانية فقد فأظهرته للجميع جهاراً أيّ المسيح المُنتصر الذي كانَ عارياً مُعلقاً فوقها. وأيضاً الموت الأول أدانَ كُلّ الذين وُلِدوا من بعده، بينما الثاني أيّ موت المسيح، قد أقامَ أولئك الذين عاشوا قبل المسيح: "من يستطيع أن يصف بالأقوال قوّة الربّ" (مزمور106: 2 السبعينية). كُنّا أمواتً وها قد صرنا أحياءً. هذه هي مآثر الصليب. هل عرفتَ هذه النصرة؟! عرفتَ بأيّ طريقة تحقَّقت؟ انظر الآن كيفَ تحققت بدون تعب. لم تتخضب أسلحتنا بالدم، لم نصطف في المعركة، لم نُجرَح، ولا شاركنا في أيّ معركة ولكن انتصرنا. حارب الربّ ونحنُ أخذنا التيجان. ولأنَّ النصرة هي مُلكٌ لنا، فدعونا نُرنِم جميعاً اليوم ترنيمة النصرة: "أينَ شوكتك يا موت أينَ غلبتك يا هاوية؟" (هوشع13: 14؛ كورنثوس الأولى15: 54-55). وهذا ما حققه الصليب لنا. الصليب هو رمز النصرة على الشياطين، الصليب سكين ضدّ الخطيئة وسيف طَعنَ به المسيح الحيّة. الصليب هو إراد الآب، زينة الملائكة، ضمان الكنيسة، فخر الرسول بولس، حامي القديسين، نور كُلّ المسكونة.
✥ عظة ثانية عن "الصليب المُقدَّس"، للقدّيس يوحنّا الذهبيّ الفمّ: كانَ الصليب في السابق اسماً للقصاص والعقاب، أمّا الآن فهو اسم للفخر والاحترام. كانَ الصليب في السابق موضع عار وعذاب، أمّا الآن فأصبحَ سبب مجد وشرف. ويؤكد المسيح أنَّ الصليب مجد بقوله: "أيُّها الآب مجدني بالمجد الذي كانَ لي عندكَ قبل تأسيس العالم" (يوحنّا17: 5). الصليب هو قمّة خلاصنا. الصليب هو مصدر عشرات الآلاف من الخيرات. بواسطة الصليب صارَ المنبوذين والساقطين مقبولين في عداد الأبناء. بالصليب لم نعد بعد مُضللين بل للحق عارفين. بالصليب أصبح الذين كانوا فيما مضى يعبدون الأخشاب والأحجار يعرفون خالق الكُلّ. بالصليب نالَ عبيد الحريّة عتق الحريّة بالبرّ. بالصليب صارت الأرضُ سماءً. وهكذا بالصليب تحرَّرنا من الضلال، وهكذا ننال الإرشاء إلى الحقّ. هكذا أتمَّ الله أمراً يليق به تجاه البشر. هكذا أقامنا من عتق الخطيئة ورفعنا إلى قمّة الفضيلة. هكذا أباد ضلال الشياطين وهكذا كشفَ الخداع. بالصليب لم يعد هناك دخان، ولا دماء حيوانات مُهرقة، بل في كُلّ مكان نجد الاحتفالات الروحيّة والتسابيح والصلوات. بالصليب هربت قوات الشرّ وفرَّ الشيطان. بالصليب تتسابق الطبيعة البشريّة لتنضم إلى محفل الملائكة. بالصليب صارت البتوليّة مُستوطنة على الأرض، فحيث أتى المسيح من عذراء فقد فتحَ طريق هذه الفضيلة أمام طبيعة البشر. بالصليب أنارنا نحنُ الجالسين في الظلمة. بالصليب حرَّرنا من الأسر، وبعد أن كُنّا بعيدين صرنا منهُ قريبين. هكذا بالصليب خلَّصنا، وصارَ لنا هذا الفداء بالفعل. هكذا بالصليب بعد أن كُنّا غرباء صرنا مواطنين سماويين. هكذا بالصليب بعد أن كُنّا نُحارِب صارَ لنا السلام والأمان. وبالصليب لم نعد نخاف سهام الشيطان، فقد وحَّدَنا نبع الحياة. بواسطة الصليب لا نحتاج فيما بعد الزينة الخارجيّة لأنَّنا نتمتع بالعريس. وبالصليب لم نعد نخاف الذئب فقد عرفنا الراعي الصالح "أنا هو الراعي الصالح" (يوحنّا10: 11). وبالصليب لن نرهب الطاغية إذ صرنا إلى جانب الملك. أترغب في معرفة إنجاز عظيم آخر للصليب يفوق إدراك العقل البشريّ؟ إنَّ الفردوس الذي كانَ مُغلقاً قد فُتِحَ اليوم. اليوم دخلَ اللصّ إليه. هناك إنجازان عظيمان، فتح الفردوس ودخول اللصّ إليه، إعادته لوطنه القديم، واسترداده إلى بلده الأمّ... الصليب هو رمز ملكوت السموات، ولهذا فإنَّني أدعو المصلوب عليه ملكاً. ملكاً إذ هو يموت من أجل رعاياه، فقد قالَ عن نفسه أنَّ "الراعي الصالِح يبذل نفسه عن الخراف" (يوحنّا10: 11). حقاً والملك الصالِح يضع نفسه من أجل رعاياه. ولأنَّهُ وضع نفسه بالفعل لهذا فأنا أدعوه ملكاً وأهتف: "اذكرني يا ربّ متى جئت في ملكوتك".

 

✥ عظة عن "الصليب الكريم المُحيي"،للقديس أفرام السريانيّ:

كُلّ عيد، كُلّ عمل يقوم به الرَّبُّ يسوع المسيح خلاص وفخر لنا نحنُ المؤمنين، لكنَّ الصليب هو فخرُ المفاخِر كُلّها. أعظَمُ الأعياد هو عيد الفصح حينَ ذُبِحَ المسيح من أجل خلاصنا (كورنثوس الأولى5: 7) القائِم من بين الأموات، حمل الله الرافع خطيئة العالم (يوحنّا1: 29). هذا العيد هو ملك الأعياد. الأعياد الأخرى مُقدَّسة ومُوَقَّرة لكنَّها تختلف فيما بينها في المجد وبهجة النور الإلهيّ. وحده الذي يعيش بموجب وصايا الله يُكرِّم هذا العيد ويُوَقِرُهُ. أمّا عادمي الطهارة والخطأة فيبقون بعيداً عنه، بل وعن الأعياد كلّها... لقد انتفت ضلالة الوثنيين. سُبيت الجحيم ولم يعد فيها أسر. تحَّطَمَت قصور ضلالة الآلهة الكثيرة. تحرَّرَ الإنسان ومَلَكَ الله. الحكم في ابتهاج والصليب سائِد. تسجد له الأمم كافة مع الشعوب والقبائل والألسنة كلّها. نحنُ نفتخر بالصليب مع بولس المغبوط قائلين: "وحاشا لنا أن نفتخر إلّا بصليب ربّنا يسوع المسيح" (غلاطية6: 14). لنرسم الصليب المُحيي على جبهتنا، عيوننا، فمنا، صدرنا وعلى أعضاء جسدنا كلّها. لنتسلَّح بسلاح المسيحيين غير المغلوب، بل غالب الموت، رجاء المؤمنين، نور الكون الذي فتح الفردوس، الذي حلَّ الهرطقات، تأييد الإيمان القويم، حارس المؤمنين العظيم، فخر الكنيسة الخلاصيّ. فلا تتركوا الصليب أيّها المسيحيون في أيّة ساعة ولحظة. لنحمله معنا في كُلّ مكان ولا نفعل أيّ شيء بدونه. لنرسم الصليب عندما ننام أو نقوم أو نعمل أو نأكل أو نشرب أو حين نسير في البرّ والبحر. لنقوي أعضائنا كلّها بالصليب المُحيي حسب قول المزمور: "لا أخشى من خوف ليليّ ولا من سهم يطير في النهار ولا من أيّ شيء يسلك في الظلمة". إن كُنتَ يا أخي تتخذ الصليب معونةً لكَ فلن تقترب منكَ الشرور ولن تَمُسَّ التجارب جسدك لأنَّ القوات المُضادة ترتعد وتنصرف لدى مُشاهدتها إياه. هو الذي قضى على ضلالة الأوثان، الذي أنارَ المسكونة، أباد الظلمة وأعاد النور. جمعَ الصليب الكُلَّ من المغرب والشمال والجنوب والشرق وربطهم بالمحبّة في كنيسة واحدة، في إيمان واحد، في مسيرة واحدة. أيّ فم، أيّ لسان يستطيع كما يليق أن يمدح سور الأرثوذكسيين غير المُنثلم سلاح المسيح الملك العظيم الظافِر الصليب قيامة الأموات، مُشدِّد المعوقين، عظمة الملوك، جرأة الرهبان، حراسة الفقراء. هو الذي أُقيمَ في وسط الكون، غُرِسَ في مكان الجمجمة لكي تُزهِر حالاً كرمة الحياة. بواسطة هذا السلاح المُقدَّس عَبَرَ المسيح جوفَ الجحيم الكثير الشراهة وسدَّ فم الشيطان الكثير الحيل الذي لا يشبع. لمّا شاهدَ الموت الصليب ارتعدَ وفرَّ هارِباً تارِكاً كُلَّ الذين كانَ قابِضاً عليهم أحراراً من عهد المجبول أولاً. بالصليب تسلَّحَ الرسل المغبوطون وداسوا قوّة العدوّ جاذبين الأمم كلّها لكي يسجدوا له. لقد اتَّخَذَ الشهداء جنود المسيح الصليب درعاً، وتغلّبوا على مكائِد الطُغاة كلّها، وكرزوا بالحقيقة بشجاعة. هناكَ من حمل الصليب على كتفيه وازدرى العالم من أجل المسيح فسكن البريّة بفرح وابتهاج كبيرين، سكن الجبال، المغاور وثقوب الأرض. يا لهُ من صلاح الله وعطفه! كم من الصالحات أعطاها الصليب لجنس البشر! لذلك ينبغي أن نُمَجِدَهُ نظراً لمحبته للبشر. انتبهوا أيُّها الأحبّاء، يا صحابة المسيح، كم هي قدرة الله، وكم هي إنجازاته، وكم من الخيرات أغدقَ على حياتنا هذا المُدَبِّر الحسن، لأنَّهُ بعد أن أعادَ السلام لحياتنا أعطانا فرصةً وسبيلاً لكي نتمتع بالحياة الآتية الأبديّة".